الجمعة، 7 نوفمبر 2014

ترجمة رواية "العلكة" لمنصور بوشناف إلى الإنجليزية ..




 صدر في شهر يونيو الماضى الترجمة الإنجليزية لرواية الكاتب والأديب "منصور بو شناف "العلكة عن دار (نشر دارف) الإنجليزية ذات الأصول الليبية، وترجمتها إلى الإنجليزية "منى ذكي."

رواية "العلكة" صدرت العام 2008، ولكن تم منع توزيعها في ليبيا، وتتناول الرواية الحياة بمدينة طرابلس والوضع العام في ليبيا فترة الثمانينات من القرن الماضي، ومن المقرر أن تترجم إلى الفرنسية قريبًا.

منصور بوشناف كاتب مسرحي وأديب ليبي من مواليد 1954، كان من سجناء الرأي لمدة عشر سنوات منذ بدايات السبعينات، وكانت رواية "العلكة" أول أعماله الروائية .

في كتاب: (الليبيون في جيش قرطاجة) للناجي منصور الحربي ...عرض وحوار: محمد الأصفر



كل صراعات الماضي على تراب ليبيا هي رسائل ذات دلالة لأبناء هذا الوطن... استرجاع الآثار الليبية المسروقة نضال ثقافي مشروع وملح... دعونا نحفر وننقب عن آثارنا بدل الأثريين الأجانب... فقط وفروا لنا الإمكانيات والأجهزة الحديثة...

في فترة سابقة قصيرة صدر عن مجلس الثقافة العام كتابا تاريخيا يتناول الصراع بين القرطاجيين والأغريق (الصراع القرطاجي الأغريقي) للأستاذ مفتاح محمد سعد البركي، تحدث فيه عن أسباب الصراع العسكري بينهما وما قدموه من حضارة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط  طارحا رؤية جديدة لهذا الصراع نلخصها في فقرة من مقدمة ذلك الكتاب القيم: (هو  محاولة لطرح رؤية جديدة تتمثل في دراسة العوامل التي ساعدت على نشوء تلك الحضارة، خاصة الدور الذي لعبه الصراع العسكري في قيام حضارة مدنية بلغت من الازدهار والتقدم ما فاق غيرها في كثير من المجالات).

وفي أواخر عام 2010 أصدر المجلس كتابا جديدا  عن حضارة قرطاجة وهذه المرة لم يتناول الصراع بين قرطاجة وأثينا أو روما لكن ركز بؤرته على جزئية مهمة جدا وهي مدى مساهمة الإنسان الليبي سواء كان مزارعا أو بحارا أو جنديا في إثراء هذه الحضارة التي دشنت أول غزو بواسطة الأفيال من القارة السوداء إلى القارة العجوز أوروبا وقد جاء الكتاب تحت عنوان "الليبيون في جيش قرطاجة" للمؤلف الأستاذ الناجي منصور الحربي المبدع في مجال الأدب وأيضا التاريخ الذي تخصص فيه أكاديميا خاصة في مجال الإغريقيات  حيث كانت دراسته في فترة سابقة في بلاد اليونان ليواصل إكمال تكوينه الأكاديمي التاريخي في الجامعات الليبية كجامعة عمر المختار التي أعد بين أروقتها وتحت إشراف أساتذتها الكبار كالأستاذ الدكتور فؤاد حمدي بن طاهر وغيره من الأجلاء رسالته الجامعية في الدراسات العليا، ومن حظ هذا الكتاب أنه جاء عبر كاتب يعرف جيدا كيف يوظف مادته التاريخية بصورة أدبية مليئة بالإيحاءات والمجاز وتفجير الأسئلة التي بالضرورة تكون صالحة لإسقاطها على الوضع الراهن المحلي والعربي والدولي وما يشهده من ثورات وتكالب وصراعات ودسائس الهدف منها السيطرة على عرق الإنسان وثروته وحتى أحلامه وآماله.. وسنجد من خلال قراءة الكتاب رؤية الكاتب ورأيه في الإغريق والقرطاجيين والرومان معتبرهم مستعمرين استغلوا في فترة من فترات التاريخ الإنسان الليبي وكبدوه خسائر فادحة في المال والروح من خلال تسخيره في الجندية أو في فلاحة الأرض أو في استخلاص الضرائب والمكوس منه لتدعيم غزواتهم ومعاركهم فيما وراء البحار، وعلى الرغم من كره الجميع للاستعمار بكل أنواعه لكن سيستشف القارئ أن القرطاجيين هم الأقرب لليبيين وهم من امتزجوا بالقبائل الليبية حتى صاروا شعبا واحدا خاصة بعد دمار قرطاجنة من قبل الجيش الروماني، ومازال الإنسان الليبي يفخر بالبطل حنابعل أو هانيبال الذي غزا الرومان بأفياله في عقر دارهم وكاد أن يدخل روما منتصرا لولا بعض الظروف الحربية التي خانته.

الكتاب ينقسم الى خمس فصول هي: الليبيون ومجيء الفينيقين إلى ليبيا – الليبيون وتجربة الجيوش المرتزقة – فصائل الجند الليبيين في مرتزقة قرطاجة – أسلحة الجند الليبيين في قرطاجة – ثورات الجند الليبيين في جيش قرطاجة.. وكل فصل مقسم إلى أجزاء تشرح الموضوع متسلحة بمصادر تاريخية ميدانية ومكتوبة.

والكتاب عندما نقرأه بقراءتنا الأخرى، القراءة السيميائية أو الدلالية أو قراءة استخلاص العبر من تاريخنا القديم سنشعر بأن الكتاب ليس مادة جامدة على الطالب أن يحفظها لكي ينجح في الامتحان إنما ستشعر أن هذا الكتاب يخاطبك وسترى أن الأغريق والرومان هم أمريكا وحلفائها الآن، وسترى المعارك التي تم خوضها في الماضي تخاض في هذا الزمن أيضا، ويمكنك أن تستشف الأطماع الاستعمارية القديمة في الأرض الليبية من خلال حادثة الأخوين فيلاني والتي أوردها المؤلف في صفحات كتابه الأولى كهامش قصير، لكن القراءة المتأملة للكتاب سرعان ما تحول هذا الهامش إلى متن مهم، حيث يتصارع الفنيقيون والإغريق على اقتسام الكعكة الليبية بعد أن سئما الحرب بينهما فيتفقان على انطلاق عدائين في نفس الوقت من قورينا عاصمة الأغريق القديمة ومن قرطاجة بتونس الآن، العداءان الإغريقيان ينطلقان غربا والفنيقيان القرطاجيان ينطلقان شرقا وعند نقطة اللقاء يكون الحد الفاصل بين الطرفين أي الحدود، أي تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب، ولعلنا مازلنا نذكر القوس الرابض قرب خليج سرت والذي يمنحنا عبر رمزيته التاريخية والمعمارية رؤية خبيثة الغرض منها تقسيم بلادنا وتفتيتها إلى جزئين وربما إلى أجزاء، لكن الحمد لله تم هدمه نهائيا، وقصة الأخوين فيلاني قصة شهيرة فعندما وصلا إلى نقطة اللقاء مندوبا قورينا اتهما الأخوين فيلاني بالغش لأن المسافة التي طوتها قرطاجنة عبر جري عدائيها أطول من مسافة عدائي الأغريق المنطلقين من قورينا ويرجح أكثر من رأي أن تأخر الأغريقيين في الجري كان بسبب الصخور والأحراش والسباخ المنتشرة في الجبل الأخضر وسهل برنيق، وكان الرأي الفلسفي من عدائي الأغريق حيث طلبا من عدائي قورينا إما أن يدفنا في نفس هذا المكان أم يتركانهما يجريان في اتجاه الغرب وعندما يتوقفان يتم دفنهما، وبالطبع لم يوافق القرطاجيين على مقترح الإغريق باستبدال الحياة بالأرض ووافقا على أن يتم دفنهما في المكان، وعلى الرغم من هذه التضحيات المحببة عسكريا وعقائديا إلا أن الخاسر الأكبر هو الإنسان الليبي الذي وجد نفسه كما في الحرب العالمية الثانية ساحة صراع هو وقودها لكن غير كاسب لثمرة نصرها أبدا.

بعد قراءتي لهذا الكتاب القيم ارتأيت أن يستفيد القارئ أكثر وذلك من خلال إشراك مؤلف الكتاب ليوضح لنا بعض الزوايا التي رأيت أن أثيرها معه فكان لي معه هذا الحوار:

س 1- أستاذ ناجي وبصراحة تامة ماذا تمثل لك قصة الأخوين فيلاني في سباقهما مع المتسابقين الإغريقيين لكسب الأرض التي هي في الأساس ليست أرضهم؟ وكيف يمكننا الاستفادة من هذه الحادثة وطنيا خاصة في ظل الظروف الراهنة التي يشهدها العالم والوطن العربي بالذات؟

ج 1-  كما كان الفينيقيون موفقين إلى حد كبير في اختيارهم لمواقع المدن الثلاث في ليبيا لوجود الموانئ الصالحة لرسو السفن وتوفر الطرق التي تربطها بجنوب الإقليم، فإن الإغريق كانوا بصدد تنفيذ مخطط  يدخل ضمن الاتجاه العام للاستعمار الإغريقي في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، حيث  كان هدفهم الاحتفاظ بالأراضي والاستيلاء على أخرى لمن يأتون بعدهم، وكان لابد من تصادم مصالح الإغريق والفينيقيين، ولهذا لجأوا تحكيم  استثنوا منه السكان الأصليين ، من أجل مصلحتهما، حتى وان اعتبر بعض المؤرخين أن الفينيقيين أبناء عمومة خرجوا من الجزيرة العربية لظروف الجفاف أو الزلازل أو غيرها.

ما يمكن الاستفادة من طريقة التحكيم العجيبة بين الإغريق والفينيقيين هو أن الفراغ السياسي والحضاري تلك الفترة في الأراضي العربية يجعل قوى الاستعمار تقتسم ممتلكاته في منأى عن السكان الأصليين.

اعتقد ما يشهده الوطن العربي في الوقت الراهن هو امتداد لمخطط يهدف إلى تمزيق اللحمة العربية وتفتيت أراضيه والسيطرة على  مقدراته المتمثلة في النفط والأراضي الزراعية الشاسعة ومخزون المياه.

س 2- أنت ليس كاتبا في مجال التاريخ بل عرفناك كاتبا في مجال الأدب والصحافة الساخرة، فهل هذا الكتاب عبارة عن رسالة جامعية أو بحث من أجل التحصل على شهادة أم جاء كعمل إبداعي منفصل  اتخذ التاريخ الليبي واجهة خلفية له.

ج 2- بدايتي كانت في مجال البحث التاريخي ولدي أبحاث تاريخية كثيرة في مجلة البحوث التاريخية والفصول والثقافة العربية ، ومنذ أن كنت طالبا بالدراسات العليا بجامعة قاريونس وبتشجيع أساتذتي (الدكتور :فوزي  فهيم جادالله) و(الدكتور: رجب الأثرم)،  وهذا الكتاب عبارة عن رسالة ماجستير في التاريخ القديم كانت بإشراف الأستاذ الدكتور: فؤاد بن طاهر.. وبالرغم من أن الغرض منها كان الحصول على شهادة علمية إلا أنني شعرت بمتعة عجيبة في البحث وأحسست أنني أضفت جديدا في تاريخ ليبيا القديم.

س 3- تاريخ ليبيا القديم مصادره مشتتة ومعظمه خاصة في مجال الآثار غير مكتشف حتى الآن، منه ما هو مازال مدفون تحت الأرض كالآثار النائمة تحت غابة ومدينة شحات السكنية... وباعتبارك مقيم ومولود في مسّة بالجبل الأخضر وهي منطقة ثرية بالآثار الإغريقية والرومانية وحتى الإسلامية وشهدت ملاحم خالدة في الدفاع عن أرض هذا الوطن كيف ترى السبيل الناجح الذي يمكنا من معرفة تاريخنا أكثر والاعتزاز به والاستفادة من عبراته ومن مادته الإنسانية القيمة التي شهد لها أكبر المؤرخين في العالم كهيرودوت وغيره.

ج 3- لا سبيل لمعرفة تاريخنا إلا بالبحث والدراسة والتنقيب المستمر وجلب الأدوات الحديثة للحفريات وتفعيل الجانب السياحي بالطرق العلمية والتركيز على البعثات العلمية لطلاب الآثار والتاريخ القديم وتشجيع دراسة اللغات القديمة والحديثة، والمطالبة باسترجاع المسروقات من التماثيل واللقي الأثرية والتوسع في إنشاء المتاحف على نطاق واسع، وحماية الأماكن الأثرية.

س4- في كتابك تناولت الأمازونات وهن المحاربات منزوعات الأثداء وملكتهن المحاربة مورينا وشككت أن الأسطورة والخيال حاضرتان في هذا الموضوع لكن باعتبارك عشت فترة طويلة رأيت فيها المرأة الليبية ومشاركتها في الأعمال القتالية وغيرها من الأعمال العنيفة التي في العادة يختص بها الرجال كذلك عاش أجدادك ووالدك أطوار من حياتهم عايشوا فيها المرأة الليبية تمارس الجهاد والحرب إلى جنب الرجل عبر شخصية "النفاقة" لتي تصاحب المجاهدين وتداوي الجرحى وغيرها كما حدث في الجهاد مع أدوار شيخ الشهداء عمر المختار.. من هنا هل الأمازونات شخصيات واقعية أم خيالية وهل ما تشهده المرأة في هذا الوقت امتداد تاريخي طبيعي لهن.

ج 4- تظل  حكاية الامازونات خيالية إلى أن نعثر على ما يثبت أنها حقيقية، وقد وردت قصة حربهن في سياق  ما يشبه القصص الخيالية، التي تبتعد كثيرا عن روح الأسطورة الملحمية، ولا يخفى فإن الأساطير تضرب أطنابها في الفكر الحضاري عند مختلف الشعوب، لكنها تمثل تراثا حكائيا لذاكرة المجتمع يجوز فيها الزيادة المفرطة لدرجة يصعب تصديقها ، ويباح فيها الإضافات لتزيين الأحداث ومنحها نكهة الحكاية الشعبية. 

وهذا لا يعني أن المرأة على مر العصور لا دور لها فهي الأم والمربية والمناضلة وهي التي تدفع الرجل إلى الدفاع عن الأرض والعرض، وليس غريبا مواقف المرأة في جهادها ضد الاستعمار الإيطالي، وما يميز هذه الفترة أن الشواهد التاريخية تقف شامخة لتعزيز دور المرأة في حركة الجهاد.

س 5- الكتاب اعتمد على مصادر كتابية كثيرة لكن مصادر المعاينات والحفريات التي من المفترض أن تقوم بها قليلة جدا، ما السبب هل مسألة إمكانيات أم احتراما واستفادة من الجهود المبذولة سابقا في هذا المجال وثقة بجدواها ؟

ج 5- ما جعل مصادر الدراسة تعتمد على الكتابية دون الحفريات هو أن الحفريات التي أجريت في ليبيا قليلة ،يضاف إلى ذلك أن من قام بها هم غير ليبيين، ونحن ندرك جيدا أنه لو أتيحت  الفرصة لليبيين فإن القيمة الوطنية تكون متوفرة في صدق البحث، كما أن الجهات المعنية بالحفريات لا تشجع على البحث والتنقيب لقلة الإمكانات ونضوب الدعم المادي. ولهذا جاءت الدراسة معتمدة على  المصادر القديمة والدراسات السابقة.

س 6- كثير من الأدباء يتناولون جوانب من التاريخ الليبي القديم كرضوان بوشويشة ومنصور بوشناف ومن قبلهما صادق النيهوم والآن إبراهيم الكوني بعد ترك أساطير الطوارئ ودخوله لتاريخ ليبيا الحديث عبر تناوله للقره مانليين في روايته نداء ما كان بعيدا  ولا تجد تقريبا شاعرا أو كاتبا إلا مسَّ هذا التاريخ بشكل أو بآخر، فبماذا تنصح هؤلاء باعتبارك متخصص في التاريخ وأيضا أديبا، هل بدراسة هذا التاريخ أولا أم بترك الخيال يمارس سطوته وجنونه أم بالمزج بين الاثنين.

ج 6- ليست لدي أية نصيحة سوى تحري الصدق وإتباع المنهج التاريخي في مثل هذه الدراسات، والقراءة المتأنية للدراسات السابقة، واختيار المرجع الموثوق منه بتفحصه والتدقيق في المعلومات الواردة به.

س 7- ما هي مشاريعك القادمة في مجال الكتابة التاريخية وهل ستسرقك من الأدب خاصة فن المقالة الصحفية والفنية الساخرة والذي تألقت فيهما كثيرا خاصة عبر كتابك الجميل "حبل الغسيل" ومقالاتك الأخرى المتناولة للشأن العام في الصحف وعلى الشبكة العنكبوتية.

ج 7- أنا باحث تاريخي وسأظل ومشاريعي في هذا المجال لن تتوقف، وآخر دراسة استكملتها منذ أسبوع بعنوان "رؤية الصادق النيهوم للعلاقات الليبية المصرية القديمة" وهي دراسة تاريخية أدبية لمجموعة تاريخنا التي كتبها الصادق النيهوم. وهذا يسير جنباً إلى جنب مع الكتابة الثقافية التي اعتبرها ترفاً ثقافياً لا غنى عنه.

س 8- قرأت لك مقالة تتحدث فيها عن زيارتك صحبة والدك المرحوم إلى بنغازي لشراء آلة كمنجة، لماذا لم نرك موسيقيا، وماذا تعني لك أوتار الكمان، وهل صحيح الآلة المستعملة أفضل من الجديدة، أنا  لدي حذاء كرة القدم المستعمل قليلا أفضل من الجديد الذي يقدم لك يوم المباراة دون أن تكون قد تدربت به وتعودت عليه وقتا كافيا.

ج 8- كان ذلك في زمن غابر منتصف الستينيات، لم تكن هناك مدارس لتعليم الموسيقا ، وكانت الموسيقا ضمن محرمات المجتمع الذي كان ينظر للفنان على أنه خارج عن القيم الاجتماعية.. كانت رغبة طفل في المرحلة الابتدائية لم تجد من يصقلها ويهتم بها.. أما صحة ما يقال عن الآلة القديمة أفضل بكثير من الآلة الجديدة من حيث الإحساس وسلامة النغمة فبالإمكان أن توجه هذا السؤال للمختصين في الموسيقا وهم كثر اليوم والحمد لله.

الاثنين، 1 سبتمبر 2014

كتاب صراع الخيمة والقصر- رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي ..منى سكرية *

يدرج الدكتور مصطفى عمر التير، استخدام الخيمة في المجتمع العربي، تحديداً البدوي منه، في خانة الاحتياجات العادية لنمط السكن السائد في الريف والبادية، ومع تطور العمران في تلك المجتمعات، بقيت الخيمة في إطار سياحي لدى كثر لقضاء الإجازات، لكن، - يضيف - أن ما حصل في ليبيا تحت حكم القذافي ظاهرة فريدة تستأهل الدراسة، إذ وفور نجاح انقلابه في 1969 واستلامه السلطة، رفع شعار «انتصرت الخيمة على القصر»، بما يوحي بصراع بين مكان سكن القذافي ومكان سكن الملك السنوسي، ولكنه صراع نفسي أعمق.

وفي كتابه الصادر حديثاً عن منتدى المعارف بعنوان «صراع الخيمة والقصر- رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي» (238 صفحة)، يتصدى التير لشرح مفهوم الخيمة عند القذافي، وربط تأثيراتها بفلسفة وفكر وإستراتيجية ونمط علاقات، تركت الأثر الكبير في شكل الحداثة التي أخذت شكلاً من بدايات التطور في المجتمع الليبي، وذلك بعد أن حلّ الشعار المذكور آنفاً على مدخل وزارة التعليم، وبعد أن أزيحت اليافطة التي تحمل اسم الوزارة، ثم تلاها مجموعة من القرارات قضت بإلغاء اللغات الأجنبية من مناهج التعليم، والاحتفال بحرقها، وتحطيم الآلات الموسيقية الغربية، فصار التعليم في ليبيا نمطاً من أنماط التجهيل وتزييف الوعي.(ص105).

يصنف المؤلف كتابه ضمن الكتب التي نشرت عن القذافي بعد رحيله، ولكن يتميز بانتمائه إلى علم الاجتماع، ومن خلال نظرة متخصص بهذا العلم لمسيرة مجتمع خضع زهاء أربعة عقود تحت الحكم الديكتاتوري «مع أنه لم يكن أول ديكتاتور ولن يكون الأخير».( يمكن الاطلاع على كتاب الدكتور يوسف الصواني بعنوان «ليبيا الثورة وتحديات بناء الدولة عن مركز دراسات الوحدة العربية).

الآثار المستدامة

وبما يشبه اليقين، يكشف التير عن أن آثار حكم القذافي ستبقى طويلاً بعد غيابه، بسبب التغيير الذي أحدثه في نسق القيم لدى جيل تربى خلال حقبة حكمه، ويراها في سلوكات أعضاء اللجان الثورية بعد 17 فبراير، إذ «وبعد مقتل القذافي طفت على السطح أنماط سلوك عبارة عن نسخة كربونية لما نفذته لجان القذافي الثورية وكتائبه الأمنية، وهكذا غاب الرمز وبقيت آثاره واضحة في أنماط سلوك يومية بين أبناء المجتمع يتم التعبير عنها بمختلف الأشكال»(ص179)، مشيراً إلى قرارات عجيبة ومنها رسالة دار الإفتاء إلى رئيس الحكومة الانتقالية عبد الجليل تطلب فيها مراقبة استيراد الملابس النسائية الداخلية.

يشرح التير العوامل التي أدت إلى تعثر حركة التحول «على رغم ضخامة الاستثمار في تنفيذ برامج تحديث من بناء مصانع وطرقات ووحدات سكنية ومؤسسات التعليم والصحة الخ»، فيشير إلى بروز عوامل وقفت في طريق التحديث على مستوى الشخصية، إذ اكتسبت الشخصية الليبية خصائص جعلتها تختلف عن تلك التي يفترض أن تكون عليها الشخصية الحديثة، فبرز شكل من أشكال الحداثة المشوهة... ومن هذه العوامل نموذج الاقتصاد الريعي، وترييف المدينة، وتخلّف التعليم وعسكرته، وبرامج ذوبان شخصية الفرد في الجماعة... ليسهب التير في تعداد الممارسات التي حصلت وأدت إلى تخلخل القيم في مناحي الحياة الاجتماعية ، فانتشر الغش ليس في الامتحانات المدرسية، وإنما صار ظاهرة عامة ومن مكونات الثقافة الليبية.

وللمفارقة فإن أول بلدية نشأت عام 1870 في مدينة طرابلس لينتشر هذا النموذج في باقي المدن، في حين تم الاحتفال بحرق آخر كوخ صفيح عام 1976 مع الإبقاء على ثقافة ريفية، وهو «ما يطبع غالبية سكان المدن الليبية من حيث المرجعية الذهنية والعادات والتقاليد»، فيدفع التير بمجموعة تساؤلات عن الذي جعل الليبيين يجمعون بين حياة الحضر وحياة البادية، رغم استعانته بتفسيرات ابن خلدون وعلي الوردي، ليستدرك مقدماً تفسيره الخاص من أن رأس النظام الذي أصدر قرارات فوقية تعّمد التقليل من مكانة المدينة، إذ أصدر ذات مرة قراراً عجيباً فرض فيه على كل موظف في المدينة شراء قفص وعدد من الدجاجات يقوم بتربيتها في شقته!( للمقارنة، منذ سنوات أصدرت الحكومة اليابانية قراراً طلبت فيه من المواطنين زراعة الزهور وأنواع من الخضار على شرفات منازلهم للحد من تلوث البيئة).

ويؤكد المؤلف أن انتشار نمط السلوك الذي تتحكم فيه الولاءات القبلية لا يمكّن الفرد من اكتساب خصائص الشخصية الحداثية، بمعنى أن القبيلة تعمل لعرقلة انتشار الحداثة في المجتمع، وعليه يرجع السبب الأهم في تعثر مسيرة الحداثة في المجتمع الليبي لقوة ولاء الفرد للقبيلة (ص108)، فظلت قوة القبيلة موجودة طيلة فترة القذافي، وهو ما أدى إلى «بدونة» المجتمع الليبي، مبدياً أسفه لأن الغالبية لا تزال تتحدث عن قبيلة الانتماء وهي حاضرة اليوم في ذاكرة الغالبية العظمى لسكان المدينة الكبرى».

وتحت تساؤله المتكرر لماذا حدث ما حدث، ولماذا نجح القذافي في توجيه الأحداث الليبية طيلة اثنتين وأربعين عاماً متعمداً جعل ليبيا حقل تجارب؟ وهل لهذا علاقة بثقافة الخوف من المجهول عند الليبيين أم هي حالة القابلية عندهم للاستتباع؟ وهذه الصفة يكاد يلصقها بسلوك غالبية الليبيين من حيث تركيز اهتمامهم بتعظيم المصالح الشخصية، وتفضيل الصمت، والتغاضي عن التصرفات غير العقلانية التي عادت بالمصائب على المجتمع، فانتشرت ظاهرة الإثراء بلا جهد، وأصبحت السرقة ضمن الأساليب المبررة والمقبولة، محملاً العوامل التي مكنت القذافي من السيطرة، وفرض تصوره، ثم ظهور حالة القابلية للاستتباع، للحالة الاجتماعية والسياسية في فترة الحكم الملكي وانهياره السريع، ( يحكي عن تجاذب بريطاني - أميركي في الانقلاب الذي حصل، فقد سبق للـ «سي آي إي» دعم الضباط الصغار لإفشال مخططات ضباط آخرين -ص141)، وللشعارات التي أطلقها حول الوحدة العربية وفلسطين، وإحيائه معارك الجهاد وبخاصة المجاهد عمر المختار وإن كان لاحقاً قد نقل ضريحه إلى قرية بعيدة ووضع ضريح والده كرمز لجهاد الليبيين، واهتمامه بالمطالعة وبخاصة كتب التاريخ، مما دفعه إلى كتابة قصص قصيرة صدرت العام 1993 بعنوان» القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء ( يتوقف التير كثيراً أمام من وصفهم بالنخب الثقافية المنافقة والمجلدات التي كتبت عن أدب معمر القذافي)، وإلى طموحه الشخصي، ( يشير إلى صفتين يحددهما علم النفس في القذافي وهما السيكوباتية أي الشخصية غير السوية وتتحكم فيها الغرائز والأنانية وحب الذات)، والسلوك الاستعراضي ( ويشير إلى احتفاظه بمسدسه في قمة القاهرة عام 70 لحل المشاكل الفلسطينية-الأردنية برعاية عبد الناصر، وارتدائه قفازات في المغرب كي لا يصافح الملك الحسن الثاني، وتدخينه السجائر في القمم العربية، إلى ارتدائه الأزياء الأفريقية بألوانها الزاهية، وتمزيقه ميثاق الأمم المتحدة على منبرها عام 2009).

في مقدمته الشهيرة يتحدث إبن خلدون عن «خشونة البداوة قبل رقة الحضارة»، ويجهد الكواكبي في تفسير طبائع الاستبداد، ونستميت نحن أبناء المجتمع العربي في تفسير أحوالنا التي تمر علينا، فهل أنها القابلية للاستتباع؟

* صحافية لبنانية

الجمعة، 29 أغسطس 2014

ليبيا والوطن في أشعار عبدالحميد البكوش...يونس الفنادى



يشكل الوطن مكوناً أساسياً في علاقة المحامي والأديب الشاعر عبدالحميد مختار البكوش، رئيس وزراء ليبيا الأسبق أثناء المملكة الليبية، بالنص الأدبي والقصيدة الشعرية. ومن خلال قراءة ومعانقة سريعة لنصوصه القليلة التي توفرت حالياً لدينا، نكتشف أن ارتباط هذا الشاعر الدبلوماسي ببلاده ليبيا لا يقتصر على برنامج أو حركية العمل السياسي الذي كان يمارسه بحكم موقعه في صناعة القرار الرسمي للدولة، بل تغوص علاقته بالوطن بعيداً في أعماق وجدانه ومشاعره العاطفية لتتفاعل وتبلور ذاك الشعور في رسم شخصية مميزة لتلك العلاقة الهوية التي عبر عنها في مقاله المشهور “الشخصية الوطنية” عارضاً فيه مفهومه لطبيعة الانتماء والارتباط بالوطن حيث يقول (… إن الانتماء إلى الوطن هو أبرز وأهم الانتماءات سواء كانت أكثر ضيقا أو أكثر اتساعاً، فالعالم منقسم اليوم إلى أوطان ترتكز كلها عل علاقة الفرد بالوطن الدولة أكثر من ارتكازها على أى من علاقات الانتماء الأخرى الأضيق والأوسع، ومن هنا فإن الشخصية الوطنية تعني نسيج إحساسات الفرد بأنه مرتبط بأرض معينة وشعب معين ارتباط أخذ وعطاء، وتظل هذه الإحساسات هي المحور المحرك لنشاط وطموحات المواطن. وإذا كان تحقيق نهضة حضارية في أى وطن يستلزم خلق مواطنين قادرين على التقدم، فإن حمل أؤلئك المواطنين على الفعل يستوجب إلى جانب أشياء أخرى شحذ همة كل مواطن وكل مواطنة وذلك بإيقاظ شعور الانتماء الوطني لدى كل منهما …).

وانطلاقاً من هذا المفهوم فإننا نجد الوطن متمثلاً وبارزاً بحضورٍ ثابتٍ وقويٍّ في نصوص عبدالحميد البكوش الشعرية بصورة مباشرة أو إيحائية من خلال بعض الرموز أو العبارات أو الأحداث أو المواقف أو الصور التعبيرية التي يطلقها بروح حالمة ومشتاقة لنسائم الوطن وأنفاس ووجوه الأهل والأصدقاء والأحبة الذين افتقدهم طوال سنوات غربته التي بدأت سنة 1977 وحتى وفاته بتاريخ 2 مايو 2007 بعاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة.
ورغم أن عبدالحميد البكوش قد أصدر عدة مجموعات شعرية إلا أننا وللأسف لا نجد لها تسجيلاً أو ظهوراً وتضميناً في الدراسات البحثية والمعاجم التوثيقية التي صدرت في بلادنا عن الشعر الليبي الحديث خلال العقود الأربعة الماضية، وهو عمل يبتعد كثيراً عن مصداقية المنهج البحثي ونزاهته وأمانته في إثبات حق من حقوق الأديب الشاعر، أو الكاتب المؤلف، بكل حيادية أياً كان التيار السياسي الذي ينتمي إليه أو المذهب الفكري الذي يعتنقه، لأن التوثيق هو تأريخ للوطن بأسره وليس لنظام حكم معين فقط. ولا أحسب أن هذا الإقصاء أو الإسقاط قد حصل ممن قاموا به سهواً أو جهلاً بإسهامات عبدالحميد البكوش الشعرية في مسيرة الشعر الليبي، ولكني أظنه تجاهلاً وإسقاطاً متعمداً نتيجة للضغوطات والمراقبة الشديدة التي كان نظام الحقبة الماضية يمارسها في كل أصناف الحياة الأدبية الإبداعية والتوثيقية وغيرها، وهذه تضاف إلى جرائمه الأخرى في طمس هوية وتاريخ ليبيا بكل مكوناته.

فكل الكتابات التأريخية التي تناولت دراسة الشعر الليبي الحديث والتوثيق له أثناء الأربعين سنة الماضية لم تشر إلى عبدالحميد البكوش كصوت شعري ضمن الأصوات الليبية الأخرى التي حلقت في فضاءات الشعر الرحبة، بل ظل منهج التوثيق للشعر الليبي متأثراً بدور عبدالحميد البكوش السياسي ومنصبه الحكومي الرسمي السابق وتعامل معه ظلماً وفقاً لذلك، وبالتالي أسقطته المعاجم المختلفة من صفحاتها، وتجاوزت الدراسات الأدبية دواوينه الشعرية المتعددة. 

ولعل أبرز هذه الإصدارات التي طمست شعر عبدالحميد البكوش هي كتاب (معجم الشعراء الليبيين) في جزءه الأول لمؤلفه عبدالله سالم مليطان، الصادر عن دار مداد للطباعة والنشر سنة 2001، وكتاب (الشعر الليبي في القرن العشرين) الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة سنة 2002، من إعداد الدكتور عبدالحميد الهرامة والأستاذ عمار جحيدر، وكتاب (الحركة الشعرية في ليبيا في العصر الحديث، بداياتها، اتجاهاتها، قضاياها، أشكالها، أعلامها) لمؤلفه الدكتور قريرة زرقون نصر، الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة سنة 2004، وكتاب (الشعر العربي المعاصر في ليبيا) الصادر عن مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري سنة 2008 والذي قدم له الدكتور نورالدين صمود.

وعلى العكس من ذلك نجد أن كتاب (معجم المؤلفات الليبية المطبوعة في الأدب الحديث) لمؤلفه الأستاذ الدكتور الصيد أبوديب الصادر عن مجلس الثقافة العام في طبعته الأولى سنة 2006 قد تضمن سرداً لستة من دواوين الشاعر عبدالحميد البكوش، جاءت متسلسلة على النحو التالي (لا وقت للحب) و(مطر السكر) و(العودة) و(قصائد من ليبيا) و(الرحيل) و(أمل بلا غروب) رغم أنه لم يتحرى الدقة في تحديد تاريخ إصدار بعض تلك الدواوين، حيث ذكر على سبيل المثال بأن الطبعة الأولى لمجموعة (قصائد من ليبيا) قد صدرت سنة 1990 بينما النسخة التي بين يدي الآن يرجع تاريخ إصدارها إلى سنة 1978.

ولا شك بأن هذا التأريخ والتوثيق المشوه يعد قصوراً خطيراً يطرح العديد من علامات الاستفهام حول أهمية وجدوى ما تم إعداده من دراسات وأبحاث عن مسيرة الشعر الليبي طالما أن هناك العديد من الأسماء الشعرية على شاكلة المرحوم عبدالحميد البكوش قد تم إقصائها وطمس نتاجها الشعري والأدبي وإغفال الكثير من النصوص الشعرية التي أبدعتها؟ كما أن هذا القياس بالاستفهام ينطبق على العديد من المجالات الأخرى غير الأدبية والثقافية.

قصائد من ليبيا

يقع ديوان (قصائد من ليبيا) للشاعر عبدالحميد البكوش في مائة وثمانية عشرة صفحة من الحجم المتوسط، وهو صادر سنة 1978 عن مطابع الزهراء للإعلام العربي بمصر، أي بعد سنة واحدة من مغادرته ليبيا، ويحتوي على واحدة وعشرين قصيدة جاءت متسلسلة كالتالي: (لا حب بعد اليوم، حنطية الجبين، سمعتهم ينادون ليبيا، البساطة، اليأس، الدمية، بلا عنوان، الزحف إلى المقبرة، العوم في الأمطار، الرسالة قبل الأخيرة إلى ليبيا، ساعة الزينة، المخدة، بحيرات العسل، إلى المتنبي في ذكراه، الظمأ، ذكريات فارسية، أم السعد، اعترافات ما قبل النوم، محنة السعادة، حبيبتي أصابتها عين، من سنوات الغربة). وقد لبست كل النصوص ثوب الحداثة وعانقت الشعر الحر، فظهرت بعيدة عن النظم الكلاسيكي وبحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل متراصة في سطور النظم الشعري العمودي الحديث، وقد تفاوتت أنفاس مبدعها فكانت (ذكريات فارسية) أطولها وأكثر النصوص سطوراً بينما (الرسالة قبل الأخيرة إلى ليبيا) أقصرها وأقلها.

وعند تصفح الديوان تقابل القاريء صورة فوتوغرافية للشاعر عبدالحميد البكوش ثم إهداءه الذي خص به وطنه ليبيا ويقول فيه (إلى تلك الفتاة السمراء الرائعة، التي كنتُ أراقبها كل مساء وهي تحمل على كتفها جرة ماء تمسكها بيد، وتمسك باليد الأخرى طرف ردائها القطني الموشى بخطوط صفر. لكم أحببتُ تلك الإبتسامة التي تتفتح على شفتيها، والتي كانت هي السعادة بعينها والتي ذابت عندما تلوث بئر القرية بالبترول. إلى تلك الفتاة التي سأحبها إلى الأبد. إلى “ليبيا”. أهدي هذه الكلمات).

إثر ذلك يطالعنا تقديم قصير بعنوان (هذا الديوان) بقلم الأستاذ ثروت أباظة لا يمثل أية إضافة قيمة لنصوص الشاعر ولا يمنح القاريء مفاتيح تلك النصوص، حيث ركز على مساهمة الكاتب السياسي في المشهد الثقافي بوجه عام، ولم يتناول نصوص الشاعر إلا في آخر التقديم حين أورد أبياتاً من نصين للشاعر هما (لا حب بعد اليوم) و(بحيرات العسل) في إشارة إلى أن أبيات مثل هاذين النصين لا يمكنه رفضها.

وهنا إذ أستعرض بعض نصوص الديوان، فإنني لست قاصداً تقديم قراءة تحليلية تتناول اللغة الشعرية والخيال والرمز والارتباط الزماني والمكاني وأثر كل ذلك في نصوص الشاعر عبدالحميد البكوش ولا استنطاق عتبات أو مفاتيح تلك النصوص لفهمها بشكل متعمق، ولكنني اخترت أن أقدم نصين قصيرين هما (سمعتهم ينادون ليبيا) و(الرسالة قبل الأخيرة إلى ليبيا) باعتبار أن الشاعر قد أورد فيهما اسم (ليبيا) صراحة على خلاف غيرهما من القصائد الأخرى في هذا الديوان أو غيره، التي عبرت بإيحاءاتها ورموزها عن علاقته بالوطن. كما أنني أردت أن تسهم هذه القراءة المتواضعة في التعريف بالراحل عبدالحميد البكوش شاعراً، وتقديم نصوصه الشعرية لهذا الجيل الذي تم تغييبه عن تاريخ بلاده ورموزها وأعلامها وشخصياتها الوطنية، تاركاً الباب مفتوحاً لمن يستكمل هذه القراءة البسيطة بعمل أوسع وأشمل وأدق.

قصيدة (سمعتهم ينادون ليبيا)

هي القصيدة الثالثة في ترتيب نصوص ديوان الشاعر وقد جاءت في ثلاثة وثلاثين سطراً، والتي يبدو من مستهلها أن اسم “ليبيا” قد وقع في مسمع الشاعر فحرك فيه مشاعر الحنين والشوق لوطنه، وحلق به في عوالم شتى رقصت فيها أعماقه نشوى زهواً وافتخاراً ببلاده ليبيا، واصفاً رنين اسمها بأنه لحن من الفردوس، وهي أعلى مراتب الجنة، يتردد صداه المقدسي في أرجاء الكون، ويبعث حلاوة هي أشهى من العسل على شفاه الناطقين به. يقول الشاعر في قصيدته:

(لو كان إسما ما سمعتْ
لما ثملتُ مجنحاً
ورقصتُ نشواناً على قممِ السحابْ
ولما توالت لذتان على دمي
مسرى الحروف الحالمات وضوعها
وحلاوة النغم الأرق من الضباب
لو كان اسماً
ما تسلل في العروق وجيبُه
سلس المقاطع لا مسيل ولا انسكاب
يغزو دفين لواعجي
ويضيء في قلبي قناديل الشباب
لا…
ليس اسماً ما تذوّق مسمعي
لكنه حلم من البلور قطّره الهوى
من دمعة الأشواق
في مقل السراب
وحلمته بجوارحي، وملأت من أطيافه عيني
لا لوماً خشيتُ ولا حساب
لا لم يكن اسماً سمعتُ وإنما
لحنُ من الفردوس
لم يعزف على وترٍ ولا هو في كتابْ
لحنُ على البلور دوّنه الندى
وتلا مقاطعه على نايٍّ من الكافور
قدسّي الصدى
ملكٌ سعيد لا يتوب ولا يثابُ
ولعلني
لو لم تردّده الشفاه الظامئات لهمسة
لحسبته بحراً من العسل الشهيِّ
مذهّب الأمواج شمعي العبابْ
فلقد شعرتُ وقد أضاء بخافقي
أني الرّشيد
وذاك اسم حبيبتي
فغرقتُ في العسل المذابْ)
قصيدة (الرسالة قبل الأخيرة إلى ليبيا)

هي أقصر نصوص الديوان حيث جاءت في تسعة عشر سطراً، صفت عمودياً وصاغها الشاعر على هيئة رسالة يبث فيها أشواقه وحنينه للقاء حبيبته “ليبيا”، والتي يبرز فيها بكل وضوح أثر مجاهل الغربة على مبدع النص، وتمنياته بقرب نهايتها والعودة للعيش في أحضان الوطن الدافئة. عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

(أكتبُ بالعروق فوق أقحوانة الورقْ
أقتلعُ الحروف من فؤادي الحزين
أصفُّها براحتي
أغسلها بدمعتي
وبالأنامل التي ترجف مثل طائر حزين
أزرعها بالحرف فوق وجنة الورق
جذور ما كتبتُ يا حبيبتي
جدلتها من حدق النور وبرعم الزمان
ثم غرستها بالجذور في رسالتي
سقيتها بالحب والأمان
لعلّها تنقل فوق جاحها إنسانْ
يعبد في عينيكِ خفقة الحنانْ
منذ سرحتُ في عينيك يا حبيبتي صرت أنا بلا أنحاءْ
حومتُ مليوناً من السنين ما وصلتُ
مرفأ السماءْ
لذا كتبتُ من مجاهلي إليك هذه الرسالة
لعلني، أنعم في نهاية المطاف
عبرها
بروعة اللقاء).

وبالإضافة إلى هاذين النصين من ديوانه (قصائد من ليبيا) صور الشاعر عبدالحميد البكوش في قصيدته (اعترافات ما قبل النوم) حالة وطنه ليبيا وأجواءها المتعددة دون أن يصرح باسم بلاده علنا قائلاً:

(وطني يعيش معالم الأفراح والأحزان
يزخر بالفناء وبالخلود
يحيا، يموت بلا حدود
ويعيش عبر النار ملحمة النعيم
فيما تكاد سنابك الأيام
تعصف بالأديم
فيما يكاد العام تلو العام
يفتك بالجديد والقديم)

أما قصيدته (إلى المتنبي في ذكراه) فقد خاطب فيها الراحل عبدالحميد البكوش شاعر العرب أبا الطيب المتنبي في مناجاة حزينة، عبر فيها عن أمنياته وتساؤلاته حول ما يعتريه من قلق وشكوك في العودة من غربته للعيش في ربوع وطنه ليبيا مجدداً.

(يا أبا الطيب
ها قد رسوت بمرفاك
بعدما صار قاربي طريد المرافي
أتراني أعيش تلك الليالي
وأشهد الحب والهوى ورقصة الخيل في احتفال الزفاف
أتراني أراه زورق الشعر
يختال في اليم تحدوه خضر الضفاف
أتراني أحس ذاك القصيد
ينساب كالنور من منابع الروح للقلب شافي
أم تراها الأماني قضت
وهي ريّانة الثغر جذلى
وخلّفت للزمان يوماً منفِّراً كالحَ الوجهِ جافي)

أما قصيدة (أم السعد) التي اختار الشاعر عبدالحميد البكوش أن يطلق هذه الصفة التفاؤلية الجميلة على أمه “ليبيا”، وهي تصوير لمصدر الأوقات والأشياء والمعاني السعيدة كافة، حين اختار أن يخاطب ولده في هذا النص ليقص عليه موقفه من الغربة وحالة الضيق والتذمر التي يعانيها، والأحزان التي يكابدها، مؤكداً له أنه لم يهاجر عن وطنه أو يغادره في إشارة إلى أن الوطن لازال في أعماقه يسيطر على وجدانه ويحرك عقله. وفي نهاية هذا النص برزت روح الشاعر مفعمة بالأمل في الخلاص ورفرفت بأجنحة مطرزة بالأمنيات العذبة، لتؤكد حلمه المتجدد بحلول العيد وانفراج الكرب ولو طال الأمد.

(أو تحسب يا ولدي أني هاجرت
أتظن بأني ضقت بأحزاني
ومللت هواجس جيراني
وملامح صبية جيراني
لا، أبداً يا ولدي
لا ما هاجرت
فخيولي لازالت تصهل عن بعد
وجذوري عطشى يعصرها الوجد
وسيقبل عيدُ يا ولدي
ما طال العهد
وأجيء بلادي مشتاقاً في يوم الوعد
سأجيئك يوماً يا أمي
يا ذات العينين السوداوين
ويا أم السعد)

هذه بعض أغاني الشاعر والسياسي الراحل عبدالحميد البكوش الوطنية التي صاغها حباً وشوقاً إلى وطنه ليبيا الحبيبة، حين ترنم بها في غربته التي فرضت عليه، منذ خروجه من السجن سنة 1977 وظل يكابد عذاباتها حتى وفاته. قصائد هذا الشاعر زاخرة باللغة الثرية الرقيقة، والصور البلاغية الجميلة، والتساؤلات المؤلمة المنبعثة من أنفاس شجية، أسهمت عن بعد في المشهد الشعري الليبي، إلا أنها للأسف لم تنل حقها في معانقة القاري على أرض ليبيا الحبيبة، ولا في قراءات ودراسات نقدية متعمقة، فمن يا ترى ينصف عبدالحميد البكوش شاعراً ويبعث الحياة مجدداً في أشعاره ونصوصه الرقيقة؟