الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

عبدالرحمن شلقم يروي غرائب الذاكرة الليبية ..بقلم سالم أبوظهير



قبل صدور رواية «حبروش» (دار الفرجاني - ليبيا) كان اسم كاتبها عبدالرحمن محمد شلقم قد نال شهرة واسعة كسياسي وديبلوماسي، وتصدّر اهتمام وسائل الإعلام العربية والعالمية عندما كان مندوباً دائماً لبلاده في الأمم المتحدة وأعلن انحيازه الكامل لليبيا وثورتها الجديدة وسخّر منصبه لخدمة الليبيين. وهو ليس بغريب عن الكتابة، فقد بدأ حياته المهنية محرراً في جريدة «الفجر الجديد» الليبية ثم تولى رئاسة تحريرها، وتقلد منصب المدير العام لما كان يعرف بوكالة الجماهيرية للأنباء. وقدم شلقم للمكتبة العربية كتباً في مجالات مختلفة وترجم بعضاً منها الى اللغة الإنكليزية والإيطالية. اما كصحافي فهو تخرج في قسم الصحافة في جامعة القاهرة عام 1972 وتدرب في زمن حسنين هيكل ويوسف إدريس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصلاح جاهين في مؤسسة «الأهرام» العريقة. باكورة إنتاجه كتاب «الدين والسياسة في التاريخ الإسلامي»، وله كتب عدة: «افريقيا القادمة»، «كتاب الحروف» وهو مجموعة مقالات في الفن والادب، و «تجليات»، وله في الشعر ديوان «أسرار» وديوان «قررت أن أفرح».

 من هي «حبروش» التي حملت الرواية اسمها؟

«حبروش» ﻟﻴس اسماً ﻣﻦ صنع خيال الروائي، بل هو اسم حقيقى لامرأة يعرفها جيداً منذ صباه وهي تسكن فى قرية الغريفة في أوباري (الجنوب الليبى)، ويقول انها امرأة غريبة عجيبة كانت تغني وترقص دائماً، على رغم فقرها الشديد، وأنها كانت محبوبة لدى الشبان والفتيات وهي مثال للصبر والإصرار والتحمل. ووفق الكاتب، فإن حبروش الإنسانة التي تحمل قيماً جميلة في داخلها على رغم قبح شكلها هي من دفعته الى كتابة الرواية وأنه يراها في الكثيرين ممن عاشوا الدنيا بأفراحها وأتراحها وهم بعض شخوص هذه الرواية. في متن الرواية تسكن حبروش «كهف العجائب والمعجزات» ويزورها ليلاً أهل القرية شباباً وعجائز، فتيات ونسوة. ويستطرد عمران محدثاً الشيخ ارجومه عن قدرات حبروش قائلاً: «قالت لي امي إنها كانت ذات يوم تحتطب مع حبروش، ففؤجئت بها تتسلق نخلة باسقة يلفّها الشوك في لمح البصر. وراحت تنتزع الجريد اليابس كأنها تقتلع البصل الصغير من تراب طري». ولكننا نجدها في نهاية الرواية عاجزة عن تخليص نفسها من الأسر وهي في شاحنة إيطالية متجهة من يفرن إلى غريان.

أربعون شخصية

يمكن أن نسمّي رواية «حبروش» رواية الشخصيات المتعددة؛ فشخصياتها كثيرة جداً تقارب الأربعين بعضها يشكل عنصراً مهماً وجوهرياً في الرواية ويحتل مساحة واسعة فيها مثل: حبروش نفسها، رولاند، رول، الشيخ رحومة، عمران، عيادة، رمضان، جورج آرثر، مصطفى طلعت، وبقية الشخصيات الأخرى يبرز دورها من خلال علاقتها بهؤلاء. وتتضح براعة كاتب الرواية في تحريك كل هذه الشخصيات الكثيرة في منظومة روائية؛ فلم تهرب منه أي شخصية أو تخرج عن الخط الذي وضعه فيها. وتبقى شخصية رولاند العظيم الذي بنى مدينة النجمة في تونس وجعلها مدينة السلام يؤمّها البشر من مختلف الأديان والملل وشعارها الحب والسلام، من أقوى الشخصيات على رغم انه توفي في بدايات الرواية، إلا أن النجمة التي بناها رولاند كانت نقطة ارتكاز لعدد من شخصياتها.

جاءت الرواية في ثمانية وتسعين فصلاً قصيراً، وهذه التقنية الروائية أعطت الكاتب حرية التنقل السريع بين شخصيات روايته الكثيرة، والمختلفة في الثقافة والدين والطبقة الاجتماعية ودرجة الوعي ومستوى التفكير. وعلى رغم تعدد شخصيات الرواية وتباينها، إلا أننا حين ننعم النظر في لغة الجميع، فإننا نجدها واحدة، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة هذه الرواية التي تستقي عالمها من التاريخ. وقد ساعدت هذه التقنية الكاتب في التحكم بأمكنة الرواية الرحبة والكثيرة، بداية من قرية الغريفة في الجنوب الليبي إلى شارع الشانزليزيه في باريس مروراً بتونس حيث مدنين وصفاقس وبن قردان، الى وادي الاجال وواحة براك الشاطي وجبل غريان، وما بينهما من صحراء يقطعها أشخاص الرواية لتجمعهم النجمة التي هي ملتقى الحضارات حيت يلتقي الإسلامي بالمسيحي باليهودي بالهندي في تناغم جميل. ويحاول الروائي أن يمسك بهذه الخيوط كلها، في فصول قصيرة ومرقمة تتواتر فيها الأحداث في شكل منظم ويتم عبرها سرد حياة الأشخاص.

رواية «حبروش» حافلة بالتفاصيل الموغلة في المحلية، وهو ما يكشف لنا تمتع الروائي بحصيلة معرفية وافرة من ثقافة الأجواء التي تناولها في روايته، سواء الجنوب الليبي الذي أمضى فيه صباه، أو حياة المدنية والتحضر في أميركا أو عواصم الغرب التي عاش فيها سنوات مهمة من حياته. وقدم شلقم عمله الروائي الأول متكئاً جمالياً على عالمين متنافرين. أولهما واقعي بمفرداته التي تعتمد على الحواس الخمس، وإمكان حدوث ما تزعمه الرواية في سردها، متضمناً جملة من الذكريات والأحداث التاريخية المتعلقة بصفحات من مقاومة الليبيين للإيطاليين فتكسب بذلك ود القارئ الليبي أو تلك المتعلقة بأحداث الحرب العالمية الثانية. اما العالم الثاني فهو وهمي بما يعتمده من غرائبية وخيال خارج حدود الحواس وقدرات الإدراك حيث مجموعة من الأحداث الغرائبية تنطلق من أمكنة محددة، وتقع في لحظات زمانية معينة، وتجري في مجتمع إنساني مغيب جاهل تسوده الموروثات البالية، وتشغل حيزاً واسعاً في بيئته الشعبية، وعقله الجمعي، وسياقه الاجتماعي. على أن الجمع بين العالمين في سردية واحدة هو ما يطبعها بما أطلق عليه النقاد المنظّرون أدب الواقعية الغرائبية. وقد استعان الكاتب بعدد من الآليات مثل: الفلاش باك، القصة الداخلية، الشعر، النص الغنائي، الحلم، الخيالات الصوفية... وهذا كله أضفى حيوية وديناميكية على النص الروائي عموماً
الاضطهاد الاجتماعي
 
تتناول الرواية ولو في شكل خفي مسألة إنسانية هي إشكالية الاضطهاد الاجتماعي وما ينجم عنه من ألم وعزلة سببهما الانتماء اللوني. فلا يفوت الكاتب فرصة إلا ويذكر اللون الأسود كرمز للدونية والقهر والعبودية وما خلّفته في نفوس بعض أشخاص الرواية.
فمثلاً تتحدث حبروش لسيدها محمد عن احد أشخاص الرواية وهو يدعى الصالحين فتقول عنه: «لعنته أنه فقير، جباد ابن جباد، شوشان يا سيدي محمد تعرف أباه ميلاد قضى عمره جباد عند الشيخ سالم مات وهو لا يمتلك ثمن كفنه». وتواصل حبروش حديثها الحزين وربما شكواها وآلامها لما حصل لصالحين وكيف رفض الشيخ رمضان ان يزوج ابنته عيادة للصالحين. وفي مكان آخر تؤكد الحبروش أن الصالحين كان يعاني ويعيش تعاسة مؤلمة بسبب لونه وهي تقول: «والسماء لم تخلق له، هي للأحرار والأغنياء فقط، ليس من حق الجبابيد والشواشنة ان يرفعوا رؤوسهم حتى للنظر اليها، النظر اليها ليس مجاناً». وحتى الصالحين نفسه كان لا يصدق أنه اصبح سيداً للقصر بعد أن مات رولاند صاحب القصر فتصف الرواية شعور الصالحين عندما نادته صالحة التونسيه بقولها يا سيدي: «أول مرة في حياته يسمع إنساناً يقول له هذه الكلمة يا سيدي!». 

والغريب أن الرواية جعلت اللون الأسود عاملاً مهماً ورمزاً للوسامة وحتى الفحولة. وتمضي الرواية في التأكيد أن اللون الأسود جميل ولا يقل جمالاً عن أي لون آخر. فها هي الحبروش تتحدث عن الصالحين الفتى الأسمر ولكن حديثاً مختلفاً: «هي الرجولة، أنت تعرفه يا سيدي محمد، هو أطول شاب في البلاد وأكثرهم وسامة، وأقواهم بدناً، لقد منّ الله على الصالحين بعدد من الحسنات أهمها الفحولة، بالإضافة الى الوسامة والقوة».

حفلت الرواية ببعض الاسئلة الفلسفية الجميلة والعميقة. ومن هذه الصور الجميلة ما كتبته هنتاري تعاتب رد هاري: «يا روح روحي، يا ضياء الوجود، ونكهة الزمان الرائع اللذيذ، علمتنا النجوم، وهتفت لنا خطوط الأكف صاحبنا صخب الأيام ودموع الزمان، ومساحات الرحلة في خضم الخوف والحب، وأصوات البشر، تعلمنا تحدثنا، صمتنا، استمعنا لكنك انحرفت خارج مسارات الافلاك». ولكن حملت أيضاً بعض الهفوات، فمثلاً اعتبرت الرواية أن البهائية مذهب والواقع ان البهائية دين له معتنقوه في مختلف انحاء العالم وهو مستقل عن كل الأديان على رغم قربه الشديد من الدين الإسلامي. وورد في الرواية احتفال بالمولد النبوي الشريف وسط حانة. 

وحملت أخطاء تتعلق بطقوس الاحتفال بالمولد النبوي الشريف فسمّت المنشد الذي يؤدي المدائح بالمطرب، وسمّت المدائح والأذكار بالأغاني.

إلا أن هذه الهنّات البسيطة التي وردت في الرواية لم تقلل من متعتنا بهذا العمل الروائي. ورواية «حبروش» لعبدالرحمن شلقم لا يمكن استيعابها في مساحة محدودة، لكنها وفي كل المقاييس، رواية تستحق القراءة لكونها تمثل إضافة جديدة الى المكتبة الليبية والعربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق